الشعر الأمازيغي القديم: قراءة في الأنساق والمضامين -إزران ن تايري أنموذجا-

تامازغا موطن السلم والحب يحتفي تاريخ الرغبات والأحاسيس الكوني بالحب كأيقونة متأصلة في الإنسان منذ الأزل حتى اليوم، هذه “الفطرة” ...


تامازغا موطن السلم والحب

يحتفي تاريخ الرغبات والأحاسيس الكوني بالحب كأيقونة متأصلة في الإنسان منذ الأزل حتى اليوم، هذه “الفطرة” التي تنمو بداخلنا لهدف تحقيق التقارب والتجاذب بين البشر، وهي خاصية تختلف طبيعة التعبير عنها من إنسان ومن مجتمع لآخر، ويظل إيمازيغن من بين الشعوب الحاملة لقيم السلم والحب، وهنا تحتفظ الذاكرة الأمازيغية بروايات عشق خلدها التاريخ تضاهي في جماليتها القصص التي تحتفي بها الميثولوجيا الإنسانية، ونذكر منها:

ـ العشق الأسطوري لپوسيدون وإرتباطه بالفتاة ميدوسا، كما يتحدث التاريخ عن تيهيا وقصة حب جمعت بينها وبين الفارس الأمازيغي أكسيل، الى قصة حب رائعة شهدتها ربوع تامزغا، بطلاها الأكليذ الأمازيغي يوبا الثاني وسيلينا الثامنة الملقبة، وقصة حب أخرى جمعت إسلي وتاسليت، ويحتفي الأمازيغ حتى اليوم بذكراهما في موسم إملشيل، وفي نفس الإتجاه  تحيلنا رواية “سانت فالنتين” في ما يعرف عالميا بعيد الحب إلى أن لها علاقة بأسطورة ذات جذور أمازيغية، وكما نعثر بين كتابات أبوليوس العديد من قصص الحب الشيقة، ونجد “ثاينيت” في الميثولوجيا الأمازيغية كرمز للخصوبة والحب، إضافة إلى الأساطير الشعبية التي غالبا ما توظف الحب في خدمة القيم الإنسانية.

هي روايات محورها الأساسي الحب والمرأة، قصص على الرغم من أنها وصلت إلينا مبتورة إلاّ أنها تحمل بين طياتها  جوهر عالم الجمال المثالي الحب والسلم الذي تميز به الأمازيغ عبر العصور؛ والذي تشكلت من خلاله أنماطا فنية أخذت أشكالا مختلفة تفرعت بين الرسومات والتماثيل وأصناف فنية أخرى.

ولعل من أهم النفحات الإبداعية الحاوية لذاكرة الحب في المجتمع الريفي نجد الشعر، أخذت مواضيعه طابعا مميزا إتسم به في كل عصر على حدة،  وبدوره إنعكس نمط الغزل والحب على إهتمام شعراء القرن الماضي فعبر كل منهم بطريقته ومن زاويته الخاصة.

الغزل والحب في الإيزري الأمازيغي بالريف

في هذا الجانب، نستطيع أن نكشف اللثام على جزء غني من تراثنا الأدبي الراقي إيزران، فالشاعر الأمازيغي لم يترك نمطا شعريا إلا وأطرق بابه، المهتمون بالشعر الأمازيغي القديم إعتبروا غرض الغزل والحب من أوفر النظم الشعرية نصيبا وأكبرها مكانة، ويعكس كل إيزري بالريف قصة لتجربة ذاتية نابعة عن عاطفة الفتوة، خاضت عشقا حقيقيا وعميقا، المتمعن في الإيزران الحاملة لجذوة الحب التي ألهمت وألهبت المتلقي الأمازيغي؛ أن صياغتها جاءت إستجابة لظروف بيئية معينة إستثمر فيها الشاعر القيمة الفنية للقبيلة وتقاليدها الإجتماعية، علاوة على إختزال الإيزري لتاريخ التوترات العاطفية والقلق. كما يتسم الإيزري بمميزات أخرى من بينها كثرة السؤال الواضح من خلال إنتشار الحوار في المساحات الشعرية (يناي، نيغاس، سقسيغ) مع تكرُر الشكوى، إلى جانب إستخدام الشاعر لحقل دلالي ورمزي غني بالمصطلحات والتعابير الإيحائية والوجدانية النابعة من الوسط الثقافي المحلي؛ فالمتأمل في طريقة صياغتها يجد أنها تدلنا على أمور تكتشف عن  ذات شاعرة ما تنفكّ ترسم  عوالم جمالية توظف الشوق واللوعة ومفارقة الأحباب وغيرها من الأحاسيس.

المناسبات كمجال خصب للتعبير الأدبي والجسدي بالريف

تعرف سيكولوجيا الإحتفال بأنها تمرد شعبي على الطابو وهي ظاهرة مقبولة ومسموح بها في إطار زمني وطقسي محدد، من خاصيتها أنها تتم وفق إلتزامات يمكن تحديدها في قواعد منتظمة تنضبط لأعراف وتقاليد مميزة لمجموعات بشرية معينة.

تنسحب هذه الظاهرة بكل ثقلها الرمزي على اللاوعي الفردي الأمازيغي الذي يرى في الشكل الإحتفالي فرصة ثمينة يسمح للمرأة الريفية البوح بكل حرية وطلاقة عن مكنوناتها العاطفية وأحاسيسها الدفينة وتفريغ كامل طاقتها المقموعة، وذلك عن طريق الرقص والغناء، ونستطيع أن نشير هنا إلى أن المرأة  تكيفت مع هذه الطقس الإحتفالي المتجذر في الثقافة الأمازيغية؛ بحيث لا تحاسب الفتاة على كل ما يصدر منها من كلام أمام الملأ بشرط أن ينشد في قالب الإيزري؛ إلاّ أنه ولإعتبارات إجتماعية نجد أنها دائما تتوخى الحذر الشديد داخل هذه المساحة التعبيرية من خلال إنتقاء الكلمات المعبرة والمشفرة تجنبا لأي رد فعل سلبي محتمل من طرف المجتمع الذكوري. وتختلف طريقة إنشاد الإيزري حسب الدافع النفسي وحسب ظروف الزمان والمكان والتي غالبا ما تكون وليدة اللحظة الناتجة عن تفاعل الشاعر (ة) مع حدث معين.

وتستعد المرأة الريفية هنا إلى تحرير نفسها من الهوامش الأنثوية المكبوتة داخل النسق الأبيسي وفتح فجوة على خطاب التمرد من خلال هذه الباقة الرائعة من الإيزران المشحونة بكلمات مميزة تبين بكل وضوح أنها أنشدت في أجواء إحتفالية لإرتباطها بالآلات موسيقية، وبعضها جاء بمثابة سهام من العواطف المؤججة ذات إيحاءات غير مباشرة تصوّب نحو قلوب المدعويين من فتيان وفتيات المدشر.

النماذج:

Nec d mami inu n tefham i muḍa
n tefham i yezran ma ɛessak d arriḍa

A tibriɣin nneɣ weqḥent adjun nni
ad neffeɣ ad niɛyar a nnini remɛani

A iḥramen nneɣ fehmet min qqareɣ
ssawareɣ s remɛani, war yedji tɛeffareɣ

A ya taɛcart inu awid amezzuɣ nnem
am inniɣ remɛani d ɣar tawid xef llif nnem

تأثير السلطة الأبيسية  في مضمون إيزري الحب بالريف

من المعلوم أن المجتمع الريفي يتسم بخضوعه للتركيبة المؤسساتية التابعة للثقافة الذكورية المتسلطة، سلطة يكون فيها الذكر (الاب\الاخ) رمز الهيمنة والقوة في البيت والقبيلة، ويكون صاحب إصدار وتطبيق القوانين الصارمة المؤثرة في الحياة الإجتماعية والنفسية للمجتمع النسائي.

ونجد أن هذه الظاهرة الوافدة بدورها على البيئة الثقافية لشمال إفريقيا نتيجة لترسبات ثقافية أصبحت اليوم متجذرة في المجتمع الريفي الذي أمسى يقيّم أخلاق وتربية وعفة الفتاة إنطلاقا من علاقاتها بالجنس الآخر؛ “إضافة إلى مصادرة حقها في التعبير السوي. وفي ظل هذا الواقع؛ أدت صرامة التقاليد وحدة الرقابة المفرطة على المرأة إلى  محاصرة أو مصادرة إستمرار العلاقات العاطفية في ظروف آمنة، فالمرأة في ظل هذه القيود ملزمة بالحذر في ربط أية علاقة مع الرجل، ومازالت فرص إلتقاء الشاب بالفتاة وإقامة علاقة بينهما محدودة أو خفية (زهور كرم، ص: 58).

ونتيجة لهذه المنظومة الإجتماعية وضعت المرأة الأمازيغية أرضية رمزية لسلوك الدائرة الأبوية المتسلطة من خلال إبداعاتها الشعرية التي تستحضر فيها تلك القوة الخشنة الغير المرغوب فيها. وهذا ما سنحاول ان نكتشفه من خلال هذه النماذج من الإيزران:

Yenna yi baba: ad xafm xedmeɣ nnit,
rxedmet nnec a teqḍa ad teqqim tenni n llif

Sseqsiɣt xef umuni, tennay: war zemmareɣ
a das t innin i baba , ayyaw a dayi ineɣ!

Fɣeɣd ad iɛyareɣ ur inu d timedji
ismercayi baba, llif war da yedji

Msagareɣ akides, ssadareɣ tiṭṭawin
war yedji d aɛeffar ggwdeɣ lwalidin

A lwalidin inu ḥalal ad ayi nɣen
ggiɣ as n arriḍa di dcar mani zedɣen

وفي السياق ذاته، يمكن بكل سهولة أن نستنتج من خلال مجموعة من الإيزران إستنجاد الفتاة الريفية ب “الأم” عوض الأب؛ هذه الشخصية السادية والقاسية القامعة للحريات الفردية داخل المجتمع، والأم هنا عبارة عن الملاذ الآمن والصدر الرحب للشكوى؛ للتخفيف عن جزء من الضغوطات العاطفية. في هذا الجانب أمامنا مجموعة من النماذج الشعرية التي تفضي فيها الشاعرة للأم بلواعج الحب والأشواق الحارقة، نستمع إلى مجموعة من الشاعرات ينشدن قائلات:

A ya ralla yemma, lḥub ad ayi ineɣ
iwcayi i yexsan yuggi ad zzayi yeffeɣ

A ya ralla yemma, min dayi yuɣin qḍiɣ
ad n dareɣ arriḍa zeg wur ad genfiɣ

-A ya ralla yemma, yemma tuḥnint inu
ma d ɛam ma d ɛamayen ɣar yeṣbar wur inu

الحقل الدلالي والرمزي لإيزري الحب بالريف

الرمزية ظاهرة فنية رافقت الأدب الأمازيغي منذ نشأته، ونلاحظ إنعكاس جمالية صورها بشكل كبير على شعر الغزل والعشق، وقد أوغل شعراء الإيزري بالريف في الرمزية بأبعادها المختلفة، نتيجة تراكمات ناجمة عن مكونات ثقافية ودينية ومخزونات نفسية وعاطفية هائلة ساهمت في إنتاج إيزران بأدوات شعرية ساحرة وذات طاقة جمالية إستطاع الشاعر من خلالها أن يمارس الكشف عن بنيته الإجتماعية بحيث إستثمر فيها بشكل قوي الممتلكات الفنية والتعبيرية ووظف فيها أدوات شعرية مصففة بإتقان ﺘﺩﻓﻊ بالقارئ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺒﺤﺙ ﻋﻤّﺎ ﻭﺭﺍﺀ ﺍﻟﻜﻠﻤﺎﺕ ﻤﻥ ﻤﻌﺎﻨﻲ ومقاصد. ومن خلال هذه الباقة من الإيزران التي تحتضن حقلا غنيا بالأبعاد الدلالية، ونذكر من بينها:

(bunarjuf, lkiyya, pina, rɛahed, ellif, ixedjaḍen, icekkamen, tiṣennart, rebḥar, rebhut, timessi, tameddit, beṭṭu, mami, mudrus, tmudrust…)

ـ رمزية بونارجوف:

يُظﻬر لفظ “بونارجوف” في الشعر الأمازيغي القديم مدى الأبعاد الفنية لهذا التوظيف، فالكلمة تسجل حضورها بكثافة في التعابيرالحاملة لتيمة الحب ﻋﻨد الريفيين، وتعتبر من بين أكثر الأسماء تداولا في الإيزري، و”بونارجوف” في الأصل نبتة تنمو بوفرة بجبال الريف. تشير الذاكرة الشعبية المحلية إلى أن تناولها من طرف الإنسان قد تُنتج عنه أعراض الدوخة والهذيان، حاولنا أن ننبش عن الإسم العلمي لهذه النبتة فتبين أنها تسمى بـ “البنج الأسود” (ويكيبيديا)، وهو نبات تُستخلص منه مادة تُستخدم كمُسكن للآلام ومُنوم ومُضاد للتشنج. كما يمكن لها أن تكون سامة حتى في الجرعات المنخفضةِ وقد تؤدي إلى الموت في الجرعات الكبيرة، ولهذا يحذر الأطباء بعدم التعامل المباشر مع هذا النبات إلاّ من قبل الخبراء، ومن بين أعراضها الرئيسة: القلق، التَقَيُّأ، إرتفاع ضغط الدم، والترنح..

ومن هنا نستطيع أن نؤكد أن وعي الإنسان الريفي بأخطار نبتة “بونارجوف” جعلته يقيمها كأداة للتعبير عن إقتران أعراض الحب بأعراضها. ونسمع إلى الشاعر الأمازيغي يقول عن “بونارجوف” في هذه اللوحات الجميلة:

Ennan ayi aqqa tehrec, rehrac nni aɛeffan
timessi n bunarjuf tegwar am deg ixsan

Abrid n Minadur arenyen as di tiru
i nec yeccin bunarjuf min iruḥen i reɛdu

Amcuma n bunarjuf d amrzag d ariri
giɣ as sekkur yugi a dayi yeɣri

Zi mermi d ac nniɣ: tḥeyyad x rfuqi
ad tecced bunarjuf war tessind ca mermi

Sseqsiɣ ṭṭerba d lɛuluma di Fas
nniɣ as n: bunarjuf innuɣay di teɣmas

رمزية إشكّامن

إعتمادا على إستقراء مجموعة من النماذج الشعرية التي تناولت أشكّام النمام أو الرقيب كشخصية منبوذة وغير مرغوب فيها والمعروفة بمكرها وخداعها، وهي شخصية محورية وأساسية في أية علاقة عاطفية كيفما كانت طبيعتها؛ تسعى دائما إلى تتبع أعراض الناس وإفشاء أسرار العلاقات وتحطيمها إعتمادا على إفتعال الأزمات والترويج لمجموعة من الأكاذيب والأقاويل لخلق توترات تساهم في زعزعة الأمن العاطفي لدى العاشقين. إنطلاقا من هذا، إستطاع الشاعر الريفي بحنكته الإبداعية أن يسلط الضوء على هذه الشخصية محذرا المجتمع من شرها، فكان الإيزري بمثابة رصاصات قاتلة كانت تصدر من أفواه الشعراء لردع هذه الشخصية عن القيام بأفعالها المكروهة.

أمامنا في إيزران نـ تايري كم هائل من الشكايات والتلميحات التي كان بطلها شخصية أشكام الذي تصفه الشاعرة تارة بالثعبان الذي ينفث سمه القاتل وتارة أخرى بالعدو اللذوذ الذي يجب أن تؤخذ منه الحيطة والحذر:

A ya icekkamen a reɛdawat inu
a yenni dayi yeksen zeg wur n llif inu

Ad beddeɣ di tewwart, duqquzen iḍewḍan
i duqqez wur inu s tmenna n yewdan

A cekkam issawar di rqehwa dinni uma
dinni wi das ɣar yinnin i wetcmac ma tecna!

Taddart n mami inu yunnuḍ as ufiɣar
yunnuḍ as ucekam ticekkamin ktar

رمزية تيطاوين وإيمطاون

كثيرا ما تلمح الدراسات الأدبية إلى أهمية العين في لغة الجسد، ولقبت العيون في الثقافة الكونية بـ “نوافذ الروح” لأنها قادرة على الكشف عن متغيرات تتعلق بإنفعالات المواقف والنطق بلغة صامتة عما يجيش في الصدور. وبدوره رسم الشاعر الريفي صورة حسية لأدق تفاصيل جسد المرأة ووصف مفاتنها وجمالها الأنثوي الظاهر والباطن، تناول من خلالها مجموعة من العناصر كالشعر والقد الممشوق.. إلاّ أن العين تظل من أقوى الأدوات الشعرية التي وظفها الشاعر للتغزل بحبيبته.

وفي نفس الموضوع، من خلال  وظيفة العين إرتكز الشعراء على التعبير عن إنفعالات الحزن في الأغلب الأعم بالبكاء وذرف الدموع؛ كخاصية مميزة للعين تُعبر من خلالها على أفكار الشخص ونواياه ورغباته والإستشعار عن أحاسيسه الفياضة.

هنا إستطاع الشاعر الريفي رصد جمالية العين والتغزل بها والتعمد إلى إبراز غزارة دموعها وإنسيابها على خد الحبيب، ونسمع إليه يقول في غزلياته وبكائياته:

Qlil wi d as ifehmen, arriḍa n tiṭṭawin
ij n warmac zi mami i tekkes tiɣufawin

Ira nniɣ war truɣ, ruɣ ten d iɣezran
mami leɛziz inu wi zzayk ɣar yesxan

Nec d maminu tamunit s tiṭṭawin
tamunit n yebriden, n jjit i thebbujin

Min ruɣ d imeṭṭawen, ggin abrid di reqrib
a llif mara yezwa sneɣ war d iteɛqib

رمزية لبرّاني

من خلال إسقرائنا المتأني للرسالة الشعرية للإيزري، نجد دائما أن الشاعر الريفي شديد الحساسية تجاه الغرباء، ولهذا نجد أن شخصية البراني أو الغريب في المتن الشعري الريفي  تؤرق مضجع الشباب العاشق، هذه النزعة الصادرة عن النسق الإجتماعي المتميز بالإنغلاقية والتمحور حول الذات (ظاهرة إنتبه إليها العديد المستمزغون الذين تناولوا الريف الإجتماعي والثقافي بالدراسة كأمثال: أورسولا وهارت وغيرهم). وهو سلوك يعبر غالبا عن الخوف الدائم من الآخر\الغريب،  فدائما هنالك قلق مركب يدفع بتجنب الإرتباط العاطفي للفتيات مع فتيان المداشر الأخرى، ففي نظرهن أن أية علاقة من هذا القبيل تشكل إستفزازا وإهانة لمشاعر الآخرين، ومن شأن ذلك أن يضر بسمعتهم، كالتقليل من رجولتهم وقدرتهم بالفوز بقلب فتاة ما تكون قد إختارت الإرتباط عاطفيا بشخص لا يمت بصلة إلى التلاحم العائلي والقبلي المنشود، وهذا السلوك في حد ذاته تسلط وتعصب مرفوض يمارسه الذكر داخل هذا الفضاء المغلق.

في الصور التالية يتجلى بعمق هذا القلق القائم على هذه الهواجس والرواسب التي نجد أثرها واضحا في هذه النماذج من الإيزران:

Waxxa xerqeɣ swadday i wcar, twanḍreɣ
lḥub n lbarrani war zemmareɣ a tawyeɣ

Tarwa n dcar inu ma teccim ur n wem
yus d rbarrani, yiwyayi jar n wem

A llif tenɣid ayi, ulabud ad cek nɣeɣ
ulabud ad awyeɣ rbarrani ad cek jjeɣ

Taharkust tazegwaɣt tniɛniɛ am ddem
ɛjen x uḍar nnem, tiwyed mmis n midden

رمزية ألّيف

في معنى هذا المصطلح يتجه الدكتور الحسين الإدريسي في كتابه: (من قضايا الشعر الأمازيغي الريفي ص: 155)، مشيرا إلى أن اللّيف يعني حرف الألف كتعبير رمزي مختصر لإسم المعشوق. ومن وجهة نظر أخرى نجد أن كلمة (الليف) لا تمت بصلة إلى حرف الألف كما أورد المرحوم الإدريسي، ولكنها كلمة دخيلة ربما تعني الألفة والتودد وهي أكثر التعبيرات دلالة عن الحب. أو ربما لغة شعرية خاصة تضاف إلى سلسلة من المصطلحات المتداولة والتي تحوم حولها معطيات قليلة وغالبا ما يتم ربطها بالحقل الميثولوجي الأمازيغي وعلاقته بأحداث أسطورية حافظ عليها المجتمع عبر تداول أسمائها المبهمة دون معرفة ماهيتها الحقيقية (كـ رلاّ بويا…).

ألليف او الحبيب أو مامينو مفردات بدورها أخذت حصة الأسد في التعبيرات الشعرية الدالة على الحب والغزل:

Sidi Cɛayeb n umeftaḥ, sidi ɣark id usiɣ
mara war cek d iwiḍeɣ d llif uked mserqiɣ

A ralla tamzida ad am hedmeɣ taɣemmart
mara iwyeɣ llif inu am tebniɣ s nnuqart

Sidi Cɛayeb a sidi d acemrar am rkas
mara iwyeɣ llif inu mkur ɛam ad n tas

Stilu n zzaj iqessen fuss inu
ira nniɣ ad arriɣ tabrat i llif inu

رمزية لكيّا

سوف لا ندخل هنا في متاهات سيكولوجيا التعبيرات الجسدية المرتبطة بالحب، بالقدر الذي نسعى من خلاله إلى الحديث عن وظيفة كي الجسد بالأشياء الحارقة كتعبير من العاشق أمام محبوبته على قدرته في تحمل الألم؛ للتأكيد عن مشاعر الحب الصادقة. الحقل الدلالي في الإيزري مليء بتعابير الكي وما يرافق هذه العملية من أساليب الوشم والوخز لكي يبرهن الواشم على مدى إصراره على إيذاء الجسد للفوز برضى الآخر.

من خلال نبشنا في مجموعة من الإيزران وإستفسارنا لمجموعة من معاصري هذه الظاهرة الإجتماعية تبين لنا أن الكي في غالب الأمر كان يوضع على ظاهر اليد لكي يكون في صورة وشم واضح للعيان، وكأّن صاحب الكي يود أن يعلن للجميع أن الكي يحمل في طياته قصة حب فريدة. سنقف هنا مع مجموعة من الأبيات الشعرية الحاملة لهذه التيمة:

Iggay lkiyya x ufus yuzzerd zzayes ddem
yennayi ḥuma ad tesned lḥub min ixeddem

Sebɛa n lkeyyat xef weɛrur n ufus inu
lkiyya t ameqrant aqqet deg wur inu

Ma yeqsac rḥar rami ggiɣ lkiyya!
iqqsayi ufus nnem deyɛed x lhawa

Lkiyya x lkiyya; lkiyya inu teɣza
lkiyya jar urawen jar iḍewḍan lla

رمزية أريضا

“أريضا” تُفسر على أنها كلمة أمازيغية مركبة تعني (أري ضار) أي الإقبال والإدبار، وبتفسير آخر تعني الرّضا، ولكنها بلا شك كلها مرادفات تدل على الحب، وربما يندرج هذا المصطلح ضمن درجات وتصنيفات مختلفة من العشق، (في هذا الجانب إنتبه الباحث الأمازيغي (محمد شاشا) في كتابه (أبريذ غار يزران) وهي أول دراسة منشورة تناولت الإزري بالبحث والدراسة بالريفية، مؤكدا أن الشاعر الأمازيغي القديم فرق بين الحب وأريضا  ونكتشف ذلك من خلال أقوال الشاعر:

Zeg wami bdiɣ arriḍa, iḍeṣ war tezriɣ
min xafi icedden lḥub war ruḥeɣ ad hniɣ

Lɛadaw a lejwad faḍiṣ yuru tini
ɛemmarṣ arida d lḥub war yemmerqi

Tiṭṭawin nnem daysent lwarata
icten tetru x lḥub icten xef arriḍa

رمزية ثيمسّي

من الملفت للنظر هنا؛ أن العديد من الصور الشائعة في الخيال الشعري عند شعراء الإيزري تشبيه حرارة العاطفة بالنار المتأججة في القلوب، فيبدو هنا، أن الشعراء عندما عالجوا هذا الموضوع أفردوا له مجموعة من الإيزران التي إستخدموا فيها الإستعارة والكناية لحاجة بلاغية لم يفصلوا بينهما من حيث العلاقة المتلازمة بين حرارة النار وحرقة الحب، وبين أيدينا أبيات تناولت هذه الصور في عدة تجليات:

A wen yeswin atay war dayi yewci walu
iw cayi timessi i wur inu ad iru

Yennayi mami: ad am qḍeɣ timessi
aysum ad icnnef aduf ad ifessi

Qneɣ sandaliyyat ɣar daxr d rciɣeḍ
llif nnem a tawyeɣ ur nnem ad icemmeḍ

Timessi deg wur inu dexxan walu dayes
mara war tiwiyyeɣ gwdeɣ ad ayi yefles

رمزية ثيصنارث:

ترمز الصنارة في التراث الشعري بالريف إلى دلالات عديدة أهمها أن الهائم في شباك الحب لا يستطيع النجاة من إلتفاف الصنارة حوله، وعليه أن يتحمل تلك الآلام المبرحة التي تسببها العلاقات العاطفية التي شبهها شعراء الإيزري هنا بالصنارة، وكما تمكن رمزيتها كذلك في الإيزري الريفي إلى تلك العلاقة المغناطيسية التي تجذب بين الحبيبين في تلاحمهم الروحي والجسدي. نسمع إلى الشاعر(ة) وهو يشتغل على هذا التواصل الرمزي، قائلا:

Nec yeccin tiṣennart, tewtay deg waneɣ
tewtay ɣar wur, tugi ad zzayi teffeɣ

Abrid n Lḥusima d inni icciɣ min cciɣ
dinni icciɣ tiṣennart ɛemmars ad genfiɣ

Sidi Cɛayeb n umeftaḥ xemsa duru n zzyart
am tiṭṭawin ideɛqen tejja day i tisennart

Ffeɣd a wen yennan: bunrjuf d aɛeffan
am acnaw tiṣennart tuyer deg ixsan
طبيعة تداخل الإزري بالريف

ساهمت إشكالية تحديد الأنماط الشعرية بالريف في إختلاف الرؤى النقدية لدى المهتمين، مما يزيد من صعوبة تصنيفه وتبوبيه وفق موضوع واضح، وذلك لتميزه بخاصية تشابك المواضيع وتداخل الأغراض والأهداف  فيما بينها.

إلاّ أن المتمعن في الإزري بالريف سيكتشف بكل بداهة أن فن الغزل والحب والتغني بالمرأة يحتل المساحة الشاسعة من خلال الإنتاج والتداول، ﻫذه الغزارة جعلت منه ﻔنا فريدا يحظى بإﻫﺘﻤﺎم ودعم من الشاعر الأمازيغي، مما جعل هذا الأخير يولي إهتمامه بالمفردات الغزلية والتعابير الرومانسية، يتصيد أجملها وأرقّها للتعبير عن أحاسيسه الملتهبة ومشاعره المتأججة بالرمزية مما يعطي لنا صورا شعرية رائعة تمتزج فيها المواضيع الغزلية والعاطفية بقضايا إنسانية أخرى، وسنحاول هنا أن نقف عند مجموعة من إيزران نـ تايري في علاقتها مع أغراض شعرية أخرى إستأثرت إهتمام الشاعر الريفي.

أولا: الحب والهجرة

لم يتمالك الإنسان الريفي نفسه وهو يودع حبيبته ويقاسم معها ألم البعد والفراق، هذه الأحاسيس الإنسانية الجارفة المليئة بالقلق والتمزقات والحنين؛ والتي أرخت لها ذاكرة الإيزري بكل قوة، فأمسى الإيزري بمثابة مرآة لذات منهارة محملة بعذبات الهجرة ولواعج الحب الممتزجة بخلجات النفْس وفرحةَ اللقاءِ وآلامَ الغربة، ونستطيع من خلال هذه النماذج أن نعيش معا بعضا من هذه الأحاسيس:

Yardeɣ aqarefṭan, bu sebɛin n reqfur
mami umi yuyar yejjay mantca deg wur

A Merwect a Merwact; taqarqact n tezra
aqqa ad teɣdared llif; axmi cem ɣar yezwa!

Aɛlik mri ɣari remrayet n Uliman
ad xzareɣ llif inu uged isɛedda riyam

Mara truḥed Aliman wcayi tabrat inu
nec war zemmareɣ i resnin a llif inu

ثانيا: إيزران نـ تايري والسخرية

وهي طريقة شعرية معروفة في الريف ترمي إلى التهكم المرير؛ والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه المتلقي، طبيعته التلاعب المعنوي بالالفاظ، ويتم ضمن معيارية فنية يتعمد فيها الشاعر أسلوبا ساخط مليء بالسخرية والإستهجان؛ يتم فيها تقديم النقد اللاذع للمتلقي في جو يختلط فيه الجد بالفكاهة والإمتاع. وهي ظاهرة ناتجة عن ترسبات ومواقف نابعة (ربما) عن علاقة عاطفية فاشلة أو ناتجة عن مواقف مشينة وغادرة.

كانت روح الشاعر (ة) الأمازيغي مليئة بهذه الأحاسيس. نكتشف في الإيزران التالية جوهر روح الدعابة ومقدرة الشاعر الريفي في إستغلال ذلك الرصيده اللغوي والمعرفي المحلي؛ فتارة نجد أن الحبيبة تلدغ حبيبها بكلمات مشفرة تبتغي من خلالها التعبير عن أسرار لا يمكن الإشهار بها إلا بواسطة هذا النمط الأدبي بعينه.

Idhen acewwaf s zzit tahurit
mana lḥub ɣar tegged a mmis n tbuharit

Yuri d i temḥeyyar isqarqub iharkas
rbakiyyet n kaza iksit id s umarrwaṣ

War xafi d ccat paṣiyyu s rejbub n qawit
a raḥ a yahebbuj baba aqqa i tɛarraṣit

Lḥub nni negga, iffeɣ ayi d anuri
maɛlik ggiɣ tafunast iri ɣebbiɣ aɣi

ثالثا: إيزران نـ تايري والتطير

كباقي الشعوب الكونية إضطر الأمازيغ إلى التفاعل مع الدجل والتطير والتبرك بالأضرحة كظاهرة فرضتها طبيعة الإعتقادات التي تكيف معها جزء من أفراد المجتمع لخلق المكائد والإنتقام وإثارة فتن البلبلة والحيرة بين الحبيبين وإيقاع الضرر بين الناس أولجلب المحبة بينهما، وهي سلوكيات لا تخلو منها أية علاقة عاطفية.

في هذا المضمار ساهمت التقاليد والرواسب الثقافية المتوارثة والجهل بالعواقب الوخيمة والسلبية لهذه العادات الدخيلة على المجتمع الريفي في إقحام ظاهرة السحر والشعوذة في الحياة العامة. في هذا المعنى، إنتبه الشاعر الأمازيغي إلى كون الدجل له طرق عديدة يمكن لها أن تؤثر في العلاقات العاطفية بين العشاق، وهو ما حذى به إلى نسج مجموعة من الإيزران تبين بوضوح ما مدى تأثيرات هذه الظاهرة، ونسمع إلى الشاعر الأمازيغي في هذه الباقة من الإيزران ينشد قائلا:

Xerqent ayi tisedwin, deg wafar n wejḍiḍ
mermi mma yeḍwa; ṭṭaweɣ d ɣark d asemmiḍ

A ya cewwaf inu itmeysin di rejbub
war da yi tegg bu tira a zzayi tawyed dnub

T weṣṣayi yemma tɛedrayi aweṣṣi
tennayi ɣarm a teṭfed ḥalawit x uɛezri

Xerqent ayi tira di tqedduḥin n uɣi
xerqent ayi ad wḍiɣ Sidi Rebbi yuggi

خاتمة

في الختام، لا ندعي في هذه الورقة أننا إستطعنا أن نرسم جزءا من الحجم الحقيقي للإيزري، ولكن يمكن أن نستخلص ممّا سبق أن فن الغزل من بواكير الإبداعات الأمازيغية التي إستأثرت الشاعر الريفي ومن أرقّها وأجملها تأثيرا وإبداعا، هذا التلاحم الوطيد الذي جمع الريفي بالإيزري جعل من هذا الأخير الناطق الرسمي  لذاكرة الريف الثقافية والإجتماعية والنفسية المفقودة، هذا الكائن الأدبي المتجذر في عمق التراث الريفي، هذا التراث الرمزي واللامادي هو مسؤوليتنا جميعا، يتحتم علينا الحفاظ عليه كل من موقعه وإهتماماته، ويحتاج الإيزري اليوم قبل فوات الآوان إلى “مرصد” لجمعه وتدوينه وضبطه وإنقاذه وتنقيحه من التحريفات التي تمس بأساليبه وطبيعته الإبداعية الفريدة.

سعيد بلغربي: باحث في الثقافة الأمازيغية

تعليقات

الاسم

أرشيف المقالات,22,أرشيف الوثائق,7,بورتريهات,7,دراسات,6,سيفاويات,3,كُتّاب وآراء,2,مكتبة أمازيغية,57,همسات أدبية,8,
rtl
item
Tadlsa - ⴰⵔⵣⵎ ⵜⴰⵡⵏⴳⵉⵏⵜ: الشعر الأمازيغي القديم: قراءة في الأنساق والمضامين -إزران ن تايري أنموذجا-
الشعر الأمازيغي القديم: قراءة في الأنساق والمضامين -إزران ن تايري أنموذجا-
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhr7Gw2SLYkx4yEEK-JMmJq2U2fkXkid_0F1Bq-6Itd3STrWDJfMqaTRov4yVa1TI1A7hgziLaN3j6F18dC644WCHRgFOk5v8JxrR-k7RYrxVAfcZRKPRdNpYzbHER_velYTBKd4lJQ3OI/s640/said2.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEhr7Gw2SLYkx4yEEK-JMmJq2U2fkXkid_0F1Bq-6Itd3STrWDJfMqaTRov4yVa1TI1A7hgziLaN3j6F18dC644WCHRgFOk5v8JxrR-k7RYrxVAfcZRKPRdNpYzbHER_velYTBKd4lJQ3OI/s72-c/said2.jpg
Tadlsa - ⴰⵔⵣⵎ ⵜⴰⵡⵏⴳⵉⵏⵜ
https://tadlsa.blogspot.com/2018/06/blog-post_63.html
https://tadlsa.blogspot.com/
http://tadlsa.blogspot.com/
http://tadlsa.blogspot.com/2018/06/blog-post_63.html
true
3386361865780287050
UTF-8
Loaded All Posts لا توجد أي مقالة عرض الكل اقرأ المزيد الرد امسح الرد امسح بواسطة الرئيسية الصفحات مقالات عرض الكل اقرأ أيضا تصنيف أرشيف البحث كل المواضيع لا توجد نتائج العودة للرئيسية الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت يناير فبراير مارس أبريل ماي يونيو يوايوز غشت سبتمبر أكتوبر نوفمبر دجنبر يناير فبراير مارس أبريل ماي يونيو يوايوز غشت سبتمبر أكتوبر نوفمبر دجنبر الآن منذ دقيقة $$1$$ minutes ago منذ ساعة $$1$$ hours ago أمس $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago أكثر من 5 أسابيع متابعين متابع THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy