صورة «الأمازيغي» وسؤال التاريخ في رواية «الموريسكي» للكاتب المغربي حسن أوريد

يُعرِّف الباحث المجري جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنّها «رواية حقيقية، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق للذا...


يُعرِّف الباحث المجري جورج لوكاتش الرواية التاريخية بأنّها «رواية حقيقية، أي رواية تثير الحاضر، ويعيشها المعاصرون بوصفها تاريخهم السابق للذات». وبالمعنى نفسه يشير الكاتب الأردني إبراهيم نصر الله إلى 
«أن كل رواية هي رواية تاريخية بشكل ما.. تسحبك إلى الزمن الذي ترويه، وتجعل هذا الزمن يبقى حياً في داخلك».

بمراجعة تعريفات الباحثين نستطيع اختصار السبل المؤدية إلى رواية «الموريسكي» للأديب المغربي حسن أوريد، الذي برع في إثارة أسئلة مقلقة عبر استنطاق الذاكرة التاريخية المتناسية لدى الجيل الجديد المنفي في مساحاته الرقمية والمحكوم بلعنة «الأزرار» و«السرعة»، فجاءت رواية «الموريسكي» كملخص يختزل هذا الكم الهائل من المجلدات الضخمة المتناثرة بين رفوف مجهولة، فتكفي رواية في حجم «الموريسكي» أن تقي شر هذه الضخامة، حتى يعي المتلقي الجديد جانبا من هذا الماضي المهم المغيب من حالتنا الإنسانية، مأساة الموريسكيين ومعاناتهم مع التخويف والاضطهاد الهوياتي والترحيل القسري والإبادة الجماعية، جراء ما مارسته محاكم التفتيش من انتهاكات وجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يغفرها التاريخ، إنها ذكرى ماضي مُرًّ مرّ مرور الكرام عبر تاريخنا، الذي ما لبث يكرر حضوره كل حين في صور لا تختلف عن ملامحه الأصلية. يبرز أوريد وهو يسطر مقدمة «الموريسكي» إلى أنه سعى إلى لفت الانتباه من جديد إلى هذا التاريخ المنسي، فرفع الضماد على جراح غائرة أبت أن تندمل، هناك جروح لا تندمل أبدا مهما هرم الزمن الذي أنتجها.

من هنا نستطيع التأكيد على أن المصادر التي تناولت تاريخ الموريسكين وحدت رأيها حول حقيقة المعاناة والمأساة التي عاشتها هذه الفئة في إسبانيا وفي الدول التي هُجِّرت إليها، خاصة في شمال إفريقيا وجزء من أمريكا اللاتينية.

في حين يؤكد بعض الباحثين على أن مجمل المآثر الأدبية المكتوبة بالعربية أو لغة الألخميادو ـ وهي لغة قشتالية هجينة تكتب بحروف عربية ـ «يغلب عليها الطابع الأدبي الرثائي، ولاسيما المشرقية منها، كما أنها مشبعة بالحس المذهبي الديني والقومي، مما يجعلها لا ترتقي بأي حال إلى الدراسات الأكاديمية التي يمكن الاستناد إليها في تأريخ قصة الأندلس»، وانحازت بشكل كبير مع المسلمين وتعاطفت معهم، كما هو حال القصة النواة التي اعتمدها حسن أوريد في استقاء مادته الروائية المتمثلة في كتاب «ناصر الدين على القوم الكافرين» لأحمد شهاب الدّين أفوقاي، الذي تحدث بإتقان عن الجانب النقي في سيرته، مع إغفال الواجهة السلبية منها، «ومن هنا يبرز المجهود الذي قام به الجنس الأدبي الموريسكي كي يضع شخصياته في عالم من النقاء والجمال». وهذا ما يثبته باحث إسباني بقوله: «إنني لم أسمع إلى أي زميل مسلم وهو يذكر، ولو في عجالة، الإبادة التي تعرض لها الكثير من الموريسكيين على أيدي العرب في شمال إفريقيا».

نستطيع أن ننتبه من خلال الفصول الستة الواردة في الرواية إلى مجهودات الكاتب التاريخية، التي بذلها لكي يبرهن على مدى صحة سيرة أفوقاي: (بلدة الحجر الأحمر في خاصرة بلاد البشارات 1585-1595، مراكش 1598- 1603، أمستردام 1612، مراكش 1613، سلا الجديدة 1615-1637، توزر 1642)، جرد كرونولوجي استدعى ترتيبا لأمكنة وأزمنة ووقائع حاول من خلالها الكاتب قدر المستطاع «تجريد أحداث الرواية من هالتها الأسطورية، من خلال الالتفات إلى ذكر التواريخ لتوخي الدقة ووصف عوالم، وجرد لفضاءات ووضعها في بيئتها الحقيقية»، عبر توغله إلى أعماق شخصيات حقيقية وأخرى متخيلة لم تأت بالصدفة، وإنما لها امتداد واضح في الحاضر والمستقبل، فحاول نقل فكرة الموريسكي من موضعها التاريخي الجامد إلى لحظة مخاض جديدة.

الأسلوب السردي في الرواية يحيلنا إلى ثقافة السارد ودوره في تقمص شخصياته، وضخها بأفكار وتوجهات ظلت مرتبطة بمنطقة صراعاته الداخلية وبقناعات ذاتية لازمته كإنسان ومبدع ومثقف وسياسي مقرب من مراكز القرار.

صورة «الأمازيغي» في الرواية

حد الآن، لم تكن مواقف حسن أوريد ضبابية تجاه القضية الأمازيغية في المغرب، فالرجل بحكم حساسية موقعه سعى بكل جرأة إلى تقمص الصوت الأمازيغي، تمرد، فتبنى القضية الأمازيغية وانخرط فيها كمدافع، من خلال كتاباته وآرائه الإيجابية، إلى جانب اهتماماته الأكاديمية، التي كرس جزءا منها في تحليل هذا الخطاب من خلال أطروحته في الدكتوراه التي تناولت «الخطاب الاحتجاجي للحركات الإسلامية والأمازيغية في المغرب».

أوريد يسعى جاهدا من خلال جميع أنشطته الأدبية إلى إقحام الأمازيغية وإثارة سؤال الهوية في المغرب. وهذا ما نلمسه بوضوح من خلال «الموريسكي» التي ظل من خلالها رهين الذات المبدعة، هذه الذاتية التي قام بإسقاطها فنيا لرسم معالم شخصياته الروائيه، فيقر بنفسه على أن «الجانب الذاتي حاضر قوي في هذا العمل». فقام بتهجين التاريخ من خلال استلهامه للتراث الغابر ومزجه بالخلاصات الفكرية الحديثة، خاصة ما يتعلق منها بالنموذج الحداثي الذي تجسده أدبيات الحركة الأمازيغية في المغرب.

تمكن أوريد من أن يقوي الدور التاريخي للفاعل الأمازيغي، من خلال شخصية أنتاتي الافتراضية والمتخيلة في الرواية، التي ليس لها أثر في سيرة أفوقاي. في هذه الغنيمة الأدبية والتراثية نجد أن أفوقاي مارس إضطهادا تاريخيا تجاه الأمازيغ كغيره من المؤرخين والكتاب المغاربة والمسلمين الذين لم يشغلوا إلاّ حيزا ضيقا لذلك «البربري» المنبوذ المتهم ـ دائما ـ بشيم الغدر والنذالة وبالتمرد والخروج عن الطاعة، وتوظيفه في صورة تقليدية ببغاوية تعكس بوضوح الإجحاف والتقزيم الذي مس التاريخ الأمازيغي القديم. والروائي يسعى هنا، إلى رد الاعتبار لهذه الذاكرة المهملة، من خلال هذا التفاعل الحواري الجريء الذي دار بين شخصيتين متناقضتين تتباينان في توجهات قيمهما الثقافية والدينية «الشاوي» و«أنتاتي»:

«بادر الشاوي أنتاتي في باحة القبة الخضراء بما كان أشبه بالاستفزاز:

ـ أما زلت أيها الأمازيغي ترفض اعتمار الطربوش، رغم أنها تعليمات السلطان؟

ـ اعتمر أجدادي دوما العمامة. الأتراك ليسوا أجدادي، ردّ أنتاتي.

ـ ومتى كان أجدادك مرجعا؟

ـ كنتم لا تسكنون إلاّ المغارات، حين..

ـ (…) حين أوقفتم دورة حضارتنا. إنك لا تعرف التاريخ يالشاوي..

ـ أنت جاحد ، بفضل سيدي تعلمت العربية وصار بمقدورك التخاطب بلغة متحضرة .

ـ روحي بقيت أمازيغية..

ـ إنكم خونة.

ـ ليست هناك خيانة أكبر من إنتزاع الأرض من مالكيها، وطمس ذاكرتهم بالأكاذيب والأراجيف.

ـ سيدي ينحدر من النسب الشريف، وشجرة نسبه تثبت ذلك، شئت أم أبيت!

ـ ومتى كان لفروج النساء أقفال؟

ـ أي وقاحة هاته!

ـ الوقاحة الكبرى هي تشويه الحقيقة، ثم ألا يتعارض مع الإسلام الإقرار بتمييز على قاعدة عرقية أو دم شريف؟».

يتقمص الراوي هنا دور شخصية إبراهيم أنتاتي الإنسان المثقف الواعي الذي «تلقى تعليمه الأول في مسقط رأسه في تالات يعقوب، ثم جاء لاستكمال تكوينه في جامع سيدي يوسف بن علي في مراكش، وحين تولى مولاي أحمد المنصور دفة الحكم اتخذه كاتبا في حاشيته» ويتكلم بلسانه، ويحاكي كل انفعالاته، فأنتاتي انفلت من بين صفحات التاريخ لينخرط بدوره في المشهد الآني، فتبوأ موقع الشاهد على عصرين (القرن 17 و21)، لتمرير مجموعة من الرسائل عبر تمثلات فنية مسايرة للحاضر والواقع. هذه المواجهات والمشاحنات الفكرية بين الشاوي وأنتاتي جاءت اعتمادا على أسس معرفية حديثة، فتمحورت حول قضايا راهنية مثل: (الدعوة إلى رد الاعتبار للتراث المهمل، إشارة إلى تحريف وطمس التاريخ المغربي الحقيقي، تجريد السكان الأصليين من أراضيهم وثرواتهم، الترويج لخرافة «النسب الشريف» للاستقواء على الأمازيغ). من الواضح هنا، أن «أنتاتي يجسد العبقرية الأمازيغية في قوتها»، وهي انعكاس لصورة أوريد نفسه، التي يؤكدها بقوله: «.. فالموريسكي، في نحو من الأنحاء هم «نحن» المرحّلون من ثقافتنا الأصلية». 

وفي المنحى نفسه ينتقل النص الروائي إلى إثارة قضايا مماثلة كتحريف وتدليس أسماء التوبونيميا والأعلام الأمازيغية، وجاء في الرواية أن: «أنتاتي كان يرفض أن يُنادى باسمه كما يحدث دائما، هنتاتي، بهاء في مستهل اسمه، هاء فرضتها قواعد الإبدال والإعلال في اللغة العربية، مثلما هو الحال في كلمات أخرى مثل زناكة التي صارت صنهاجة، وشتوكة التي تنطق هشتوكة، أو زرون (الصخور) التي صارت زرهون. لم يكن ذلك جزئية بالنسبة لأنتاتي الذي كان يريد أن يبقى على ما هو عليه: أمازيغي… من الواضح أنه وردت إشارات أخرى تهم الجانب الثقافي والهوياتي من خلال جدلية العروبة والإسلام، نقرأ في الرواية:

«ـ يا للمهانة، لغة عربية جميلة تخرج من فم من لا يوقر العرب.

ـ المهانة الكبرى هو أن يعمد عربي، أو من يدّعي أنه عربي، إلى سب الأمازيغيين في عقر ديارهم».

إذا ما تأملنا النص، فالراوي قام برصد مجموعة من الآراء المترسبة في المخيال المرجعي عن الأمازيغ قديما وحديثا، «بغاية التعبير عن أنماط الوعي الممكنة كما تحتفظ بها الذاكرة التاريخية». وتنتقل الرواية للحديث عن مآل مستقبل الأمازيغ من خلال استثمار أوريد لرمزية أنتاتي، الرجل الأمازيغي غير المؤتمن الذي يمكن له التمرد في أي لحظة للتعبير عن السخط وعدم الرضى من الوضع الذي يعيشه داخل المجتمع. في هذا الشأن، نقرأ في الرواية:

ـ هل لديك أخبار عن أنتاتي؟

ـ لا شيء.

ـ يا له من رجل! لعله على رأس بعض القبائل يقود تمردا.

ـ أتعتقد ذلك؟

ـ الأمازيغ لا يحسنون إلاّ هذا.. لذا الآن، وهو حر، فسيكون على رأس حركة تمرد. هذا طبعهم. من حسن الحظ أن الأمازيغيين مشتتون. أتتصور القوة التي كانوا سيشكلونها بنزوعهم الحربي وعددهم؟

 خاتمة:

لقد نجح أوريد في استثمار أدوات الخطاب التخيلي للانفلات من سلطة الماضي، ونحى في روايته خطوات تكاد تكون متشـــبعة بالأسالـــيب نفســــها التي أسس عليـــها «روائيون تاريخيون» أفكارهم كأمثال: واسيني الأعرج في روايـــة «وقـــع الأحذية الخشنة» ونجيب محفوظ في «عبث الأقدار» وأمين معلوف في «ليون الإفريقي» ورضوى عاشور في «ثلاثية غرناطة».. فأصبح «النص عندهم يحمل خصوصية لها إيقاعها بين الماضي والحاضر بكل الهزائم وبعض الانتصارات في راهن يؤرخ للآتي».

تعليقات

الاسم

أرشيف المقالات,22,أرشيف الوثائق,7,بورتريهات,7,دراسات,6,سيفاويات,3,كُتّاب وآراء,2,مكتبة أمازيغية,57,همسات أدبية,8,
rtl
item
Tadlsa - ⴰⵔⵣⵎ ⵜⴰⵡⵏⴳⵉⵏⵜ: صورة «الأمازيغي» وسؤال التاريخ في رواية «الموريسكي» للكاتب المغربي حسن أوريد
صورة «الأمازيغي» وسؤال التاريخ في رواية «الموريسكي» للكاتب المغربي حسن أوريد
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEj754_tzr9fYEy5YEjfM2YNz56JwyXleE0nNgTJ7m5VNbyNlIhC2yPZRb5tjWEOHXHLdwF6mTatbIbMTxVK7gMCzrJRjYKBuxEqeXuV3HyPTp4URjuI4ydlu6TGTn4H1ClVpavfBUfPoJA/s16000/saidex.jpg
https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEj754_tzr9fYEy5YEjfM2YNz56JwyXleE0nNgTJ7m5VNbyNlIhC2yPZRb5tjWEOHXHLdwF6mTatbIbMTxVK7gMCzrJRjYKBuxEqeXuV3HyPTp4URjuI4ydlu6TGTn4H1ClVpavfBUfPoJA/s72-c/saidex.jpg
Tadlsa - ⴰⵔⵣⵎ ⵜⴰⵡⵏⴳⵉⵏⵜ
https://tadlsa.blogspot.com/2021/03/blog-post.html
https://tadlsa.blogspot.com/
http://tadlsa.blogspot.com/
http://tadlsa.blogspot.com/2021/03/blog-post.html
true
3386361865780287050
UTF-8
Loaded All Posts لا توجد أي مقالة عرض الكل اقرأ المزيد الرد امسح الرد امسح بواسطة الرئيسية الصفحات مقالات عرض الكل اقرأ أيضا تصنيف أرشيف البحث كل المواضيع لا توجد نتائج العودة للرئيسية الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت يناير فبراير مارس أبريل ماي يونيو يوايوز غشت سبتمبر أكتوبر نوفمبر دجنبر يناير فبراير مارس أبريل ماي يونيو يوايوز غشت سبتمبر أكتوبر نوفمبر دجنبر الآن منذ دقيقة $$1$$ minutes ago منذ ساعة $$1$$ hours ago أمس $$1$$ days ago $$1$$ weeks ago أكثر من 5 أسابيع متابعين متابع THIS CONTENT IS PREMIUM Please share to unlock Copy All Code Select All Code All codes were copied to your clipboard Can not copy the codes / texts, please press [CTRL]+[C] (or CMD+C with Mac) to copy